مجلة "ألف" وحوار الأب متى المسكين مع هدى وصفى ونصر أبو زيد وجابر عصفور ( حوار رائع )


المتنيح الأب متى المسكين



ثلاثة من كبار مفكرينا حاوروا الراهب والمفكر الأب متى المسكين، ونُشرت
المحاورة التي تكشف عن الحجم الفكري للراحل العزيز
في العدد الثاني عشر من مجلة
البلاغة المقارنة "ألف" وهو عدد خصصته اﻟﻤﺠلة الرصينة للمجاز في العصور الوسطي.
( ننشر في هذا البستان المحاورة بإذن من "ألف".( ١
١) المقدمة التي نشرت ﺑﻬا جريدة أخبار الأدب نص المحاورة. )
مقدمة
حين توجهنا في صيف ١٩٩١ لعقد هذا الحوار مع الأب متى المسكين، لم نكن نظن
أن الحوار سيتشعب ويمتد هذا الامتداد الأفقي والرأسي، فأفقيا حدثنا الأب عن تجربته الروحية
في خطها التطوري منذ اختار طريق الرهبنة وهجر الصيدلة سنة ١٩٤٨ حتى عزلته الحالية في
دير الأنبا مقار علي الساحل الشمالي، مرورا بالصعوبات التي تعر ض لها من الكنيسة،
والصعوبات التي مرت ﺑﻬا الكنيسة ذاﺗﻬا نتيجة الخلافات التي شجرت بين الأنبا شنودة والرئيس
السادات. ورأسيا ساعدنا الرجل – بكل السماحة والحب - علي القيام برحلة داخل وعيه بدءا
من وعيه الديني وانتهاء بوعيه بمشكلات العالم المعاصر، وفي القلب منه مصر والعالم العربي،
مرورا بآليات الشرح والتفسير وتأويل الرموز الدينية في الكتب المقدسة.
ومن حق الرجل علينا أن نشهد له بأنه محاور من الطراز الأول، يجيد الاستماع
والإنصات بالقدر الذي يجيد به التعبير عن نفسه ﺑﻬدوء وثقة وتواضع في الوقت نفسه . إنه
تواضع العلماء وثقة الواصلين وهدوء أهل اليقين. لقد أبدي صبرا وتفهما لما قلناه نحن أهل
الظاهر والجزئي والنسبي، واستمع إلينا وتفاعل معنا طامحا أن يصل بنا إلي عالمه، ويرتفع
بأرواحنا إلي ذرى يقينه. لقد كان سعينا للحوار مع الرجل نابعا من احترام عميق لشخصه ومن
إدراك لأهمية إنجازاته الفكرية التي توّجها بشرحه لإنجيل يوحنا في مجلدين كبيرين . وكانت
عودتنا بعد الحوار عودة الظافرين بحصاد لم نكن نحلم به، فقامة الرجل شخصا وانجازا وتواضعا
أعلي من كل تصوراتنا.
وما نقدمه لقارئ هذا العدد من ألف هو جزء من ذلك الحوار الخصب الثري، جزء
اضطررنا لاقتطاعه ليناسب محور العدد. لكننا حافظنا علي الحوار كما هو، ولم نكن بحاجة
إطلاقا للتدخل أو التعديل. وهذا الجزء الذي اقتطعناه دار كله حول شرح إنجيل يوحنا، وحول
معضلة التفسير والتأويل، وقراءة الرموز.. إلخ. تحية للأب متى المسكين من (ألف) التي تأمل أن
يتواصل قراؤها عبر هذا الحوار مع الرجل، العالم والمفكر والراهب.
نصر حامد أبوزيد
هدي وصفي: نريد أن تحدثنا عما قمت به من شرح إنجيل يوحنا، ويدفعنا إلي هذا
السؤال منهجك في الشرح من ناحية، والتمهيد المستقل الذي قدمت له للشرح في
أكثر من أربعمائة صفحة بعنوان المدخل لشرح إنجيل يوحنا. وواضح أنك كنت تقدم
- في هذا الشرح - ترجمة تفسيرية جديدة للنصوص الأصلية؟
متى المسكين: في الحقيقة، أنا حين ابتدأت الترجمة واجهت معضلتين : الشرح
والتفسير، فالكلام بحاجة إلي تفسير، وبعد التفسير بحاجة إلي شرح، لأنني أوضح معني
النص، وأرتبط بالنص ارتباط أمانة، ونقطة البداية هي ترجمة النص لأنه يوناني ذو
ترجمة سقيمة، ولذلك أبدأ بإعادة ترجمته. بعد ذلك أبدأ التفسير علي ألا أخرج خارج
النص إطلاقا، وإلا فإن ذلك لا يعتبر تفسيرا، فأي خروج نسميه عدم أمانة، وهذا لا
ينطبق علي القرآن، ففي القرآن ليس بعد النص شيء، ولكن في الإنجيل، لدينا ما يجعل
الكاتب يكتب مثل إنجيل يوحنا، فهو يوضح كلام المسيح ويشرحه فقبل النص هناك
صاحب النص ولذلك لابد أن أتعرف علي النص كي أقول الشرح، وتلك مرحلة ما
قبل التفسير، وفيها خروج عن النص ولكن في حدود صاحب النص، إذ لابد لي أن
أعرف صاحب النص سواء كان المسيح أو يوحنا، وأن أتربي بالمعني الصحيح تحت
رجليه وأن أعرف خلجات قلبه وفكره، وبالتالي أستطيع أن أكتب أكثر من النص
مرات كثيرة، وأشرح النص دون أن أخرج عنه قيد شعرة.
جابر عصفور: أنت – إذن - شارح بالمعني التأويلي، علي أساس أن التأويل عود علي
البدء، ومن ثم فشرحك إدراك لغاية صاحب النص.
متى المسكين: أنا لا أؤول، أنا آخذ التأويل من صاحب النص.
جابر عصفور: بمعني أنك ترجع إلي الأصل.
متى المسكين: أرجع إلي النص فقط، وليس إلي ما قبل النص.
نصر أبو زيد: في القرآن ليس عندي ما قبل النص.
جابر عصفور: في الإسلام ليس هناك ثنائية.
متى المسكين: لا، ليس ثنائية، ولكن أستطيع أن أسميه الفكر الكلي المطلق أو الوعي
الكامل، يتدرج إلي الوعي غير المطلق المرتبط بالعقل فيتترل كلامًا، ولكن قبل الكلام
وعي خارج عن الكلام، أقوي منه وأكبر منه ولكن لا يخرج عنه.
نصر أبو زيد: في القرآن، نربط بين التفسير والعلوم اللازمة للاقتراب من النص، بمعني
أنني لا أستطيع تفسير آية دون أن أعرف أسباب الترول.
متى المسكين: هنا أستطيع القول، ولك أن تردني، إن وراء النص القرآني هناك الروح
القرآنية التي كتبت القرآن، كيف أتبين هذا؟ محمد عبده والأفغاني خرجا عن النص
وشرحا، وكان شرحهما مقبو ً لا وتأثيرهما قويًا علي المسلمين، ولكن هذا انتهي يوم
قفل باب الاجتهاد، وهذه مأخوذة علي المسلمين، إذ كيف يقفل باب الاجتهاد
والاجتهاد مرتبط بالله وليس بالقرآن فقط، الاجتهاد هبة، رجل موهوب فكيف أقول
له لا تجتهد، وهو أخذ من الله 'فرمان' أن يجتهد ويشرح، إن غلق باب الاجتهاد يكون
حين يغلق الله باب الإلهام.
نصر أبو زيد: بالنسبة لمسألة الإلهام، هل أنت من المتصوفة؟
متى المسكين: لا، لست صوفيًا.
نصر أبو زيد: هناك قول شائع ومستقر مؤداه أن كل كلمة وكل حرف في القرآن له
ظاهر وباطن، وله حد وله مطلع، أربعة مستويات في التفسير، هل توجد هذه
المستويات الأربعة في تفسيرك؟
متى المسكين: أنا أتكلم عن الباطن، فأنا أري المسلم المتمكن من الروح الإسلامية
الذي يتقن العبادة والتقوى عنده قدرة علي دخول باب الاجتهاد، وهذا مُنع، وأنا في
الحقيقة آخذ ذلك علي المسلمين، فكيف يغلق باب الاجتهاد بعد محمد عبده
والأفغاني. لماذا؟
جابر عصفور: لأسباب سياسية معروفة، وعند بعض اﻟﻤﺠموعات فحسب.
نصر أبو زيد: في الحقيقة، إن باب الاجتهاد مغلق منذ زمن طويل، والذي حاوله محمد
عبده أنه وارب الباب قليلا، ثم أغلق مرة ثانية.
متى المسكين: لماذا؟
نصر أبو زيد: كما يقول الدكتور جابر، لأسباب سياسية.
متى المسكين :أتعرف أن ذلك هو الذي فرقنا، هو الذي فرق الإسلام عن المسيحية.
نصر أبو زيد: هذا أكيد.
متى المسكين: حتى المسيحية حين انقسمت إلي كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية،
تركت الوعي العالي ونزلت إلي الوعي العقلي، فحين يرتفع المسلم في باب الاجتهاد
ويتلامس مع الروح، سوف يتلامس معي بلا شك، ولكن حين نترل علي الأصول
فقط، سيكون لك بيت ولي بيت، لا تزورني ولا أزورك.
جابر عصفور: هذه النقطة، لو أذنت لي، نريد أن نتوقف عندها قليلا، الذي فهمته
الآن أن هناك ما يسمي بالروح الكلي وهذا هو المستوي الأعلى، وهناك ما يسمي
بالوعي الجزئي، أي الوعي المتصل بالعالم، وهناك النص، ثم هناك أنت كقارئ،
وسؤالي هو: هل يستلزم فهم النص نوعا من الاتحاد الوجداني بينك وبين الروح الجزئي
الذي يجعلك تتصل مباشرة بالروح الكلي؟
متى المسكين: طبعا، وأنت قد شرحت.
جابر عصفور: أريد أن أسمع منك.
متى المسكين :أنت أوضحت بما يكفي، أنا أعطي لأناس معرفتهم قليلة بالوعي
الروحي العالي، ولكن لديهم التراث الإنساني، الإسلامي أو المسيحي، لديهم النفحة
التي أعطاها لنا الله، أعطاها لآدم ولي ولك، أخذنا الوعي الكلي بالله كهبة، ولكن ﺗﻬنا
بسبب خروج آدم من وجه الله وتعسفه وتعرجه في العالم، فضاع منه الوعي الكلي
وعاش بالوعي الجزئي، ومن حين لآخر علي يد هذا النبي أو ذاك في العهد القديم، إلي
أن جاء داود وسليمان الحكيم اللذان انطلقا من الوعي الروحي المحدود في العقل إلي
الوعي الكلي، وأعطانا لمحة، هذا هو ميراث البشرية. مباركٌ هو الإنسان الذي يستطيع
أن ينفذ من الوعي المحدود المرتبط بالعقل الذي يتربع علي التاريخ والزمن والقياس،
ينفذ من الباب الموارب إلي الوعي الإلهي، هذا يكون الإنسان الإلهي الذي يتقرب إلي
الله، ويعبده ويعرفه بشكل صحيح.
جابر عصفور: في هذه الحالة، حين يكون هناك نوع من الاتحاد الوجداني، هل
نستطيع القول إن شرح الإنجيل الذي كتبه الأب متى كان مرآة الأب متى التي انعكس
عليها الوعي الكلي بطريقة تتناسب مع درجة الاتحاد الذي تم بين الأب متى الشارح
والنص المشروح.
متى المسكين: في الحقيقة، لا أخفي عليك، أنا لم أتجرأ طيلة عشرين عاما أن أقترب من
إنجيل يوحنا، لشموخه ولشعوري بالعجز والقصور، ماذا حدث؟ إن هذه السنين
جعلت الوعي يرتفع ويتذوق، إلي أن بدأت أقرأ إنجيل يوحنا واكتشف أن هناك معاني
مختلفة وجديدة، وقلت لرهبان كثيرين، كم أتمني شرح إنجيل يوحنا ولكني لا أقدر، إلي
أن جاء اليوم، وأحسست أن الوعي الذي أشعر به قريب من الوعي الذي كتب به
يوحنا، لدرجة أنني حين كان يستعصي عليَّ مفهوم، كنت أتوقف، وأجلس صامتا
وأصلي، أريد أن أشعر به وتقريبا أخاطبه، وأقول له: ماذا تريد أن تقول؟ إن الكلام
واضح ومفهوم ولكني لا أستطيع أن أعيه كي أكتبه: لحظتها، يأتي الحدس فأكتب،
وهذا هو خلاصة قولي، حين تقترب من صاحب النص تحصل علي الشرح، أنت تقول
إنني مرآة، في الحقيقة لست مرآة، أنا موصل صديق لصاحب النص، قريب منه وأحبه.
هدي وصفي: كونك تعيش مع المؤلف، أو صاحب النص كي تشرحه، هل هذا
ينطبق علي النصوص الإلهية فقط، أم علي جميع الإبداعات؟
متى المسكين: إذا جعلتني أدرس أي شاعر أو أديب ممن يملكون الوعي العالي، فأنا
أستطيع أن أشرح لك ما قاله مثلما شرحت يوحنا. هذا ميراث بشري مشترك، وأنا
عثرت عليه، وعنده مثلما عندي وربما أكثر، ولكن ليست هناك محاولة، وأنا واثق مما
أقول، وتستطيع ﺑﻬذا المفهوم أن تعود إلي القرآن وتشرح، فالشرح يتعلق بصاحب
النص، وهذا هو ما اكتشفته بالنسبة للدكتور نصر أبو زيد، فهناك النص والتفسير
والتأويل، ولكن أين الشرح؟
نصر أبو زيد: في الانتقال من الظاهر إلي الباطن إلي الحد إلي المطلع، الذي هو الروح
الكلي.
متى المسكين: أنا أقف عند الباطن، لأن الخروج عنه درجة غير بشرية.
نصر أبو زيد: المتصوفة المسلمون تحدثوا عن أربع درجات، وطلعوا إلي الرابعة.
متى المسكين: لا تصدقهم كثيرا، وفي المبدأ السني، لا يؤخذ برأي المتصوفة لأﻧﻬم
تجاوزوا النص.
جابر عصفور: أتصور أنك تمثل منطقة وسطي بين التصوف والعقلانية.
متى المسكين: أنا معك، فعقلي الباطن صديق، وهو ما يسمونه بالجوانية، فإذا تكلمت
في العلم آتي لك بجديد بسبب أنني أنتقل بسهولة من العقل المحدود إلي ما فوق.
نصر أبو زيد: أريد أن تشرح لنا دورك كشارح للنص، كيف تكتب للقارئ الذي لم
يخض التجربة من حيث التقوى والصلاة وغير ذلك، كيف تحيل الفهم إلي خطوات
لغوية وتفسيرية؟
متى المسكين: هذه هي الأدوات.
نصر أبو زيد: نعم، ونريد أن تحدثنا عنها.
متى المسكين: البركة فيمن علمونا من الأساتذة، طه حسين والعقاد، كيف كانوا
يوضحون ويقسمون المعني، وكنت أتساءل وأنا أقرأ كيف قسم هذا المعني أو ذاك؟ فلا
يمكن أن تتعلم شيئا دون أن تعرف من أين جاء. فالأدوات ليست محتاجة إلي دراسة،
الأدوات تلقين، والتلقين إذا ما تقابل مع الآلة المستعدة، ساعتها أجد الكلمة تأتي
بشكل عفوي ومباشر إلي درجة أنني إذا ما أتتني علاقة لغوية مسجوعة، أخاف من
السجع لكيلا يقول أحد أنني أسجع، فأحذف السجع، فأنا لا أقدم سجعا ولا جمال
لغة، أنا روح في لغة، لغتي ليس لها قيمة، لغة محدودة، ولكن الروح هو الذي يجعلها
لغة براقة.
جابر عصفور: ألم يحدث مرة أن الروح لم يتجسد في اللغة بسهولة، أو أن اللغة تأبّت
علي الروح في التعبير؟
متى المسكين: أنت تضغط علي مواجعي، فما كتبته هو ربع ما أريد، وما جعلني محددا
شيئان: القارئ واللغة، القارئ لا يستطيع الاستيعاب واللغة قاصرة، وحين يكون المعني
قويا تجدني اختزلت في الكلام.
جابر عصفور: هناك صوفي من متصوفة القرن الرابع هو النفري، له عبارة جميلة
وموحية تقول: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وأنت تتحدث عن كيفية تجسد
الروح في لغة، واللغة بطبيعتها المحدودة لا تستطيع استيعاب كل شيء، لا تستطيع أن
تجسد إطلاقية الروح.
متى المسكين: الله مدرّك كامل، يدْرّك ولكن ليس كما ينبغي.
جابر عصفور: معني ذلك أنك فيما يتصل بمسائل الشرح، مؤمن بالعلم المضنون به
علي غير أهله، وأن هناك مستويات للعلم ومستويات للعقول البشرية!
متى المسكين: لا، كل عالم وكل مشتغل بالعلم يصل إلي العلم لو مرَّ ن حواسه
الروحية، وكل إنسان فيه روح ووعي مطلق ولكنه مرتبط بالعقل، فلو م رَّن العالم
حواسه لابد أن ينطلق، أنا أقول ذلك وأنا حزين، أنا كنت إنسانًا ضعيفا ولم يكن
لديَّ وعي، أنا رجل عملي، صيدلي، أدواتي هي الموازين وأنابيب الاختبار ومراقبة
الألوان، ولكني حين تقربت إلي الله كراهب، وأخلصت، انفتح لي العلم شيئا فشيئا،
هل هذا حذق مني؟ أبدًا، هل هذه إيديولوجية؟ لا.
جابر عصفور: ولكن هذا يجعلني أسألك مرة ثانية، لماذا شرح إنجيل يوحنا بالذات؟
متى المسكين: اقرأ الأناجيل وأنت تعرف.
جابر عصفور: ولكني أريد أن أسمعها منك.
متى المسكين: في الحقيقة، الأناجيل الثلاثة الأخرى تقدم التاريخ، مسيح التاريخ،
الولادة والصبا والتعميد والتعليم، ولكن يوحنا لم يقدم هذا التاريخ، لم يذكر بيت لحم
ولا مريم العذراء إلاَّ في مرات قليلة، ثم إن يوحنا بالذات تعرَّف علي المسيح وعاش معه
قبل التلاميذ بمدة، وعاش معه في اليهودية، فإسرائيل مملكتان. فوق إسرائيل وتحت
اليهودية. وأول ما بدأ المسيح بدأ في اليهودية فترة ربما سنة، وكان معه يوحنا، وهذه
السنة قالها يوحنا. فوق هذا، فإن الأناجيل الثلاثة لم تذكر أورشليم إلا مرة واحدة،
أي سنة واحدة ذهب فيها المسيح إلي أورشليم وعلم هناك وصلب، ولكن يوحنا
ذكرها ثلاث مرات أي ثلاث سنين، إذن إنجيل يوحنا هو الذي يقول لك إن المسيح
عاش في اليهودية تقريبا ثلاث سنين ونصف، فيوحنا يعطي فرصة أوسع للتعرف علي
المسيح. بالإضافة إلي ذلك، تتحدث الأناجيل الثلاثة علي المستوي العقلاني التاريخي،
ولكن يوحنا وجداني وروحاني، وأعتقد أنه كان يسجل الكلمات ولا ينقلها من
الذاكرة، وأهم ما في إنجيل يوحنا هو حواره مع الفريسيين الذين كانوا تماما علي
مستوي الدكتوراه في اللاهوت، فتصور حوارا بين المسيح وبينهم، يوحنا يسجل
الحوار بعمق، ومع كل هجوم منهم يأتي المسيح بتعاليم جديدة، فهجوم الفريسيين هو
الذي كوَّن إنجيل يوحنا، كذلك فإن المسيح كان يذهب إلي أورشليم، ويذهب إلي
هيكل سليمان ويعظ، وكان الكهنة يحضرون فيحدث نقاش معهم حول طقوسهم
وأعيادهم: وفي كل عيد يشرح لهم طقس العيد علي مستواه الجديد، فمنهج العهد
الجديد – إذن - كله في إنجيل يوحنا، وأيضا يوحنا لم يقحم نفسه، أنت لا تجده في
مرة يعلق، بل تجد حوارا حرا ليس فيه الإيديولوجية الثقيلة.
نصر أبو زيد: ولكنه اختار ما يحكيه.
متى المسكين: قام بتنقيته، قال: أمور كثيرة قالها المسيح ولكن هذه اخترﺗﻬا لكم كي
تؤمنوا.
هدي وصفي: هذه هي الإيديولوجية.
متى المسكين :إيديولوجية اختصار وتركيز فيما ينفعهم.
نصر أبو زيد: ما يتصور هو أﻧﻬا تنفعهم.
جابر عصفور: ولكن هناك سؤالا في الجوانب البلاغية لو أذنت لي، أنا ألاحظ في
المدخل والجزءين الآخرين أنك لا تستخدم إلا رموزا، وفي الشروح الدينية دائما م ا
يقرأ الإنسان الاستعارة واﻟﻤﺠاز، ولكنك ملتزم دائما بالرموز، لماذا؟ لماذا لا توجد إشارة
إلي الاستعارات؟ لماذا الكلام عن الرموز فقط؟
متى المسكين: هذا سؤال مبدع، معك حق، وفي الحقيقة كل ما عرف عن المسيح في
العهد القديم رموز، يقال مثلا: رفع موسي الحية علي عصاه في البرية كي يراها كل
إنسان، فقد كانوا يعصون الله فجاءت الحيات وعضتهم، فموسي هنا فعل شيئا لا
يعرفه، واليهود طوال العهد القديم لم يعرفوا هذا السر، فقالوا هات عصا وأصنع حية
نحاسية وكل من ينظر للحية ويكون معضوضا سيشفي، رمز خطير في العهد القديم
كله، أتعب اليهود كثيرا، ما هي الحية؟ فجاء إنجيل يوحنا يقول: كما رُفِعَت الحية في
البرية، كما رفعها موسي علي العصا، كذلك سيُرفع ابن الإنسان علي الصليب، من
أجل أن يشفي كل من رآه. رمز ظل مغلقا حتى بعد أن قاله المسيح، فالرمز القديم
بديع والجديد أبدع، فأنا محصور بين رمزين، فلابد أن أشرح الأول والثاني، في الأول
صوِّرت الخطيئة في حية، وهذا مستمد من قصة آدم، فالحية النحاسية رمزٌ ضارب إلي
بعيد، وجاء المسيح، وهذا ما أتعب اللاهوتيين كثيرا، لماذا قال يوحنا إن المسيح رُفع،
وفات عليهم أن الحية رمز الخطيئة، والحية النحاسية ميتة، فالمسيح سيموت، رمز الحية
الأول ميت، فالرمز هنا تحقق بحية – الخطيئة - ميتة في المسيح، فالخطيئة ماتت في
المسيح، المسيح أمات الخطيئة.
هدي وصفي: لو سمحت لي، فأنا أتصور أن سؤال الدكتور جابر مرتبط أكثر بالصور
البلاغية.
متى المسكين: أنا مضطر هنا أن أتكلم عن الرموز لأﻧﻬا أقرب إلي ما أريد، فالرمز
مرتبط بالحقيقة والروح. المسيح قال: أنا هو باب الخراف، كل من يدخل عن طريقي
يصبح راعيا، ومن لا يدخل عن طريق الباب لا يصبح راعيا. إنه هنا وضع رمز الباب،
وبعد ذلك قال: أنا الباب والطريق، فأصبح رمزا.
جابر عصفور: أود أن أسأل سؤالا قد يبدو ساذجا علي نحو ما، ما الذي يجعل من
هذا رمزا ويخرج ذاك من الرمز؟ في الشعر هناك مشكلة، كيف نحدد الرمز؟ فنحن
نستطيع فهم ليس فقط النصوص المقدسة ولكن أيضا النصوص الأدبية إذا كان عندنا
ما يشبه المعيار الذي يحدد لنا ما الرمز، فلماذا الخمر رمز؟ والكرم رمز؟ والنار رمز؟
والنور رمز؟
متى المسكين: هذا من تراثنا القديم، من التراث الفرعوني، لماذا الإله شمس؟ أو قمر أو
ثعبان أو صقر؟ لماذا الرموز؟ لقد جاء إخناتون وحلها. قال: الإله واحد وكل هذه
رموز، والرمز في العهد القديم مؤله، وفي العهد الجديد: لماذا الماء رمز؟ لأن الماء يعطي
حياة، فحين يقول أنا ماء حي، معروف أن هذا الرمز يحمل أقوي صفة يمكن أن
نسقط عليها الشخص، فلا أستطيع أن آتي برمز لا يحمل صفات أساسية في الشخص
وإلا تصبح صورة مهزوزة، فحين تري الصور التي أخذها المسيح وأحلناها إلي رموز،
تجد مجموعها يكوِّن صفات المسيح.
هدي وصفي: يمكن أن يكون رمزا ولكنه ليس حقيقيا، ويمكن جزئية معينة تذكر،
لكن ليس شرطا أن تكون مبنية علي شكل من أشكال التعبير، فأنت تقول لابد أن
تكون هناك جزئية متحققة كي تصلح لأن تكون رمزا.
متى المسكين: هذا في الشعر والأدب، ولكن في المسيح لا، فحين أقول الماء الحي فهذا
تعبير حقيقي وليس رمزيا، وحين قال: يخرج من أمام عرش الله ﻧﻬر، هذا ليس رمزا
ولكنه وصف لواقع. فالمسيح حين يقول: أنا راعي الخراف، هذا ليس رمزا ولكن
حقيقة علي أساس أننا خراف ناطقة، لو أنك أخذﺗﻬا علي أﻧﻬا خراف عادية تصبح
رمزا، ولكن لو عرفت من المضمون أن الخراف ناطقة وأننا جميعا خراف الله، وأن
الخراف حينما تخلص جدا تصبح ذبائح إلي الله، نقدم أنفسنا ذبائح إلي الله، فالوصول
من الرمز الشكلي إلي الحقيقة الإلهية فاتت علي كثيرين، فهي ليست رموزا بل حقائق.
نصر أبو زيد: الرمز هنا مرتبط بالعالم الجزئي.
متى المسكين: بمفهوم العالم الجزئي هو رمز ولكنه بمفهوم المطلق ليس رمزا.
جابر عصفور: معني ذلك أن الرمز ليس استعارة لأن الاستعارة لها معنيان، أولهما لا
معقول، وثانيهما هو المعقول والمقصود، والرمز عندك معقول كله. وكل رمز هنا له
معنيان: معني ظاهري وهو حقيقي، فنحن خراف بالفعل في ﻧﻬاية الأمر، وله معني ثان
من حيث دلالته علي الحقيقة المطلقة الكلية. وعلي هذا الأساس لو قلنا إن العرش
الإلهي يتفرع منه ﻧﻬر فهذا حقيقي علي المستوي الظاهري للرمز، ولكن له معني ثانيا
مرتبطا بما كنت تسميه الشرح. ﺑﻬذا المعني، الرمز ليس له علاقة بالاستعارة، لأن
الاستعارة بالمعني البلاغي ظاهرها غير حقيقي، فإذا قلت مثلا رنت لنا ظبية وأنا أقصد
فتاة جميلة، فالظاهر هنا غير حقيقي.
متى المسكين: لذلك، فمن الأدب الديني أن لا نوقع الرموز علي الله إلا إذا كانت من
واقع الله الرحمن الرحيم. ولا اخترع كلمات، فليس مصرحا لي أن أعطي رموزا
للمسيح إلا إذا كانت من صميم الصفة الطبيعية فيه.
هدي وصفي: هذا ليس رمزا، بل حقيقة.
متى المسكين: بشكل رمزي، فحين أقول الله ماء، أو أنا الماء الحي، هذا رمز ظاهري.
هدي وصفي: ولكن كيف يتحقق في العالم المطلق؟ فلو قلنا إن الله ماء، كيف يتحقق
ذلك في العالم المطلق؟ لا يتحقق، لأن الله لن يكون علي شكل ﻧﻬر في العالم المطلق.
متى المسكين: هنا يعجز العقل، هنا الرمز في شكله الظاهري العقل يحصره، ولكن حين
أرفعه للمطلق لا أستطيع أن أحصر الله فيه، وأقول الله ﻧﻬر أم لا. هنا أكون قد حصرت
الله وهذا تجديف. لا أستطيع أن أحصر الله في ﻧﻬر أو ماء وإنما أستطيع القول إن الله
كان ماء.
هدي وصفي: هذا - في اللغة العربية - تشبيه.
جابر عصفور: هناك قضية أنت تلح عليها سواء في المدخل أو الشرح وهي قضية رؤية
الله، أنت تعطيها اهتماما، فمثلا في تفسير القرآن هناك آية: "وجوه يومئذ ناضرة إلي
رﺑﻬا ناظرة"، هناك اختلاف في تفسيرها، بعض المفسرين من أهل الظاهر يقولون الرؤية
بمعناها العادي، وطبعا يؤخذ عليهم أﻧﻬم وقعوا في التجسيد. وهناك مفسرون يقولون
برؤية القلب، ومفسرون آخرون، وهم من المعتزلة، يقولون الرؤية هنا مجازية، بمع ني
التوجه إلي الله، لكنك هنا تقول شيئا مختلفا.
متى المسكين: رؤية الله لا يمكن أبدا أن يحصرها العقل ولا يصفها، ولا اللغة تستط يع
أن توقعها في معان، ولكن هل تمَّتْ؟ نعم. كيف؟ لا يمكن التعبير عن ذلك . رؤية
المطلقات غريبة عن العقل والمنطق، ورؤية الله موهبة عظمي للوعي الكامل للإنسان،
خصوصا عندما يتدرج من حق إلي حق حتى يُستأمن أن يواجه الرؤية. هنا ينبهر العقل
ويرتد محسورا، وحين تسأل متصوفا: ماذا رأيت؟ يقول رأيت ﺑﻬجة. صف. لا يمكن.
لماذا؟ لأنه أراد أن يسقطها علي المحدود، وهذا مستحيل، ولكن أنت سوف تري الله
حينما تكون فوق، وتحسه وتعبده. ولكن كيف؟ لا يمكن التعبير. ونحن الآن عندما
نعبد الله نحاول أن ندخله في صور.
نصر أبو زيد: أنت قلت في عبارة مهمة جدا أريد أن أربطها بمسألة الرمز، إن المسيح
كلمة الله وأيقونة الله، وهذا يفسر مسألة الرمز بالنسبة لي، فالمسيح كلمة حين
تجسدت تحول المسيح إلي رمز دال علي الأصل، فعندي هنا رمز وعندي مرموز كلي
مطلق، هل مقولة الرمز في المسيحية أي التأويل الرمزي خاضع لهذه البنية؟
متى المسكين: أي بنية؟
نصر أبو زيد: أن المسيح أيقونة الله، فإذا استبدلنا بكلمة المسيح هنا كلمة رمز، فهمنا
أن المسيح أيقونة الله لأنه جاء لتخليص البشرية، وفهمنا من الأيقونة الإلهية أن الروح
الكلي الذي تجسد في شكل ناسوت، هذا الناسوت هو الله وهو المسيح في الوقت
نفسه، هنا شيئان ولكنهما في الواقع شيء واحد، العقل يدركهما اثنين ولكنهما
واحد، رمز جزئي في واقع يرمز إلي كلي فيما وراء الواقع.
متى المسكين: في الحقيقة، الشيئية هنا احتملت الحلول فلم تعد شيئية، فالمسيح عندما
حل في الناسوت، الكل حل في الجزء ولكن الجزء لم يعد جزءا، الكل انفرش علي
الجزء، والجزء انفتح علي الكل فأصبح المحدود غير محدود، وأصبح اللا محدود في صورة
المحدود، كالحلاج مثلا حين قال أنا المسيح وصلبوه، فالذي حدث أنه شعر بالكل حل
فيه فغش العقل وظن أنه أصبح كلا، وفي المسيح فإن الكل فعلا حل في الجزء
فاستجاب الجزء وانفرد علي الكل فلم يعد جزءا.
هدي وصفي: هل تطابق مع الكل؟
متى المسكين: نعم، تطابق مع الكل.
هدي وصفي: حتى في لحظة وجوده علي الأرض؟
متى المسكين: نعم.
هدي وصفي: فكيف نبرر صلواته وفيها انفصال عن الكل وطلبه رفع المعاناة عنه.
متى المسكين: لأنه يمثل البشرية، يمثل الإنسان.
هدي وصفي: إذن هناك لحظة تكون فيها الثنائية واضحة.
متى المسكين: لا، هذا سؤال صعب جدا، أوقع الكاثوليك في الأرثو ذكس، هنا في
الحقيقة، حين نتناول الجسد نحن نتناول لقمة صغيرة ونقول نحن نتناول المسيح، الجسد
هنا رمز واضح وأصبح قطعًا، ومع ذلك فإن من يتناول القطعة الصغيرة كأنما أخذ
المسيح بداخله، هنا تنزهٌ خالصٌ عن المادة، المادة شكلا، ولكن الجزء انفرش وأصبح
ك ً لا إلي درجة أن المسيح فيَّ، نحن نؤمن بالحلول، وهنا الجزء أصبح ك ً لا، لدرجة أنني
حين أصلي علي القربان وأقول هذا جسد المسيح وفق كلامه، ونأخذ القطعة الصغيرة
نعتبر أننا أخذنا المسيح بداخلنا، ونحس، وليس هذا تصورًا وإنما قوة، وربما أتكلم بلغة
أخري، هنا انتقال إلي شيء إلهي، لذلك أقول إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي
أعطي له أن يحول الزمن إلي خلود، والشيء إلي المطلق.
جابر عصفور: ولكن هذا مفهوم مختلف عما نعرفه عن الرمز، فأنت جعلتني أتصور أن
الرمز أيقونة الله تماما مثلما المسيح أيقونة الله، وهذا ليس مفهومنا عن الرمز، هنا هو
الصورة التي يتجلي ﺑﻬا المعني الإلهي كي ندركه.
متى المسكين: لا الرؤية ولا التجسد يؤديان إلي شيء، فمن رآه اعتبره إنسانا عاديا،
هنا الاستشفاف أو الوعي الروحي المنفتح، فيري ما لا يري ويدرك ما لا يدرك، وهذه
عظمة الإنسان.
جابر عصفور: هل من يؤكد هذه الفكرة أن كل الرموز المستخدمة هي ظواهر
الطبيعة؟
متى المسكين: ليس لدينا مجال آخر.
نصر أبو زيد: وهذا سؤالي عن الحقيقة واﻟﻤﺠاز، نحن نستخدم اللغة ونقول: الله قادر
وعالم، ونستخدم نفس الصفات عن الإنسان، أين الحقيقة وأين اﻟﻤﺠاز؟
متى المسكين: أقول لك، وهنا لمسة صوفية، الإنسان غير قادر وغير عالم إطلاقا،
الإنسان قادر بالله، لو لم يجعلك الله قادرا فلن تكون، فالقدرة المنسوبة للإنسان مجازية
ومأخوذة تجاوزا من الذي هو قادر علي كل شيء!
هدي وصفي: حتى لو هو غير مدرك وغير معترف؟
متى المسكين: حتى لو تجبر واحد وقال أنا قادر بغير الله، نقول له تفضل وارفع هذا
الكرسي، فيحاول رفعه فلا يقدر، هنا يتدخل الله، هل يؤمن أم لا يؤمن؟ والله فعل
هذا كثيرا، الإنسان ليس عنده شيء، هذا تكبر وانتفاخ، وهذه كلها سرقة مباحة، فالله
سمح أن نسرق صفاته ونتكبر ﺑﻬا، ولكن لا يوجد إنسان عالم بذاته وقادر بذاته.


شارك هذه المقالة مع أصدقائك :
 

المتابعون