يونان ونينوى ونحن

بقلم  الأب متى المسكين


ليس عبثاً وضعت الكنيسة هذا الصوم المبارك في هذا الوقت بالذات، فترتيب الكنيسة دائماً مُلهَم.


تعلمون أننا قادمون على الصوم الأربعيني المقدَّس. والكلام هنا مركَّز وموجَّه. فكلمة ”الأربعيني“ ذات أهمية خاصة، ذلك لأننا قادمون على موت يجوزه المسيح عن البشرية كلها، أو هو استبدال موت بهلاك، ذلك لأن البشرية كلها كانت في حالة هلاك أو مشرفة على هلاك وإبادة لا تقل عن إبادة الطوفان (40 يوماً)، وذلك بسبب تعاظُم سلطان الخطية.

وهذا ما حَدَا بالابن المبارك أن يترك مجده ويلبس بشريتنا ويتألَّم لكي ينقذ البشرية. لقد قدَّم نفسه للموت عِوَضاً عن هلاك البشرية ثم قام، فصار موته وقيامته مصدر خلاص وتوبة لا تنتهي. صار آية لكل مَنْ يريد أن يرث - لا أن يرى الإنسان بعد آية(1) - بل يرث السماء نفسها. فهذا هو موت المسيح وقيامته. وهذا هو الصوم الأربعيني الذي صامه الرب عن البشرية كلها، ليُوفِّي عنها كل نقص في نسك أو في صوم.

والكنسيون منكم يتذكَّرون أننا كُنَّا نُردِّد ألحان عيد الظهور الإلهي، أي التعميد الذي لا يتم حسب الطقس إلا بالتغطيس الكامل تحت سطح الماء (3 مرات)، أي في عمق المياه - أو بتعبير قصة يونان - نزل إلى بطن الماء. لذلك لما خرج المسيح من الماء اعتُبر ذلك مسحة خَدَم بها، تلك التي تقدَّم بها للدخول في صوم الأربعين يوماً، ثم إذا تجاوزنا الزمان أو الت‍زمنا بالطقس الكنسي ندخل مباشرة في أسبوع الآلام ثم الموت فالقيامة.

وهكذا يأتي صوم يونان قبل الأربعين المقدَّسة حاملاً معاني ورموزاً كثيرة ما بين الغطاس والموت على الصليب!!

نعود إلى يونان. ونسأل: مَنْ هذا المدعو يونان؟

إنسان نبي، من العبرانيين، أتاه صوت الرب هكذا: «وصار قول الرب إلى يونان بن أَمِتَّاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ...» (يون 1: 2،1).

فقام يونان، يقول الكتاب: إنه ”قام وهرب“ إلى ترشيش من وجه الرب، وذهب وهاج البحر.

السِّفْر لم يوضِّح أكثر من هذا، وطبعاً إن أي عدم توضيح في الأسفار أو الإنجيل ليس معناه قصوراً أو خللاً في التدوين ولا حتى سهواً، ولكنه فسحة للفكر العميق وللنفس المتأمِّلة، لتستوعب الأشياء التي لا يمكن أن تُكتب في سطور. وأتمنَّى أن يكون هذا الكلام له صدى عند السامع، لأن كثيرين يشتكون من غموض بعض المواضع في العهد القديم؛ بل وفي الإنجيل أيضاً.

صوت الرب يقول ليونان: اذهب وبشِّرها لأن شرَّها صعد أمامي. فهرب ونزل في بطن الماء وبَقِيَ فيه ثلاثة أيام، وبالتعبير الكتابي: المسيح ن‍زل إلى الهاوية ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. ويونان ن‍زل إلى العمق، في بطن الحوت، ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبتعبيره هو قال: «صرختُ من جوف الهاوية» (يون 2: 2)، وهكذا يبدو سفر يـونان تطبيقياً ورؤيـويّاً، وكل سطر وكلمة فيه تُشير إلى المسيح بصورة قويَّة جداً. وهنا يمكن اعتبار يونان بمثابة يوحنا المعمدان في العهد الجديد الصارخ ليُعدَّ طريق الرب.

يونان رمزٌ حيٌّ بشخصه، يمثِّل المسيح. عماد المسيح دفع به إلى الأربعين المقدَّسة، والأربعين إلى الصليب ثم القيامة. تماماً كما ن‍زل يونان الماء ثم ذهب لنينوى كارزاً لها بالتوبة قائلاً لها: إن المدينة ستهلك بعد أربعين يوماً - كأنما هنا إشارة خفية أن الأربعين يوماً هذه مهمة في تحديدات الله - وكأنها وفاء أقصى مدة محدَّدة للهلاك (الطوفان). لكن الرب أوفاها وقضاها في صومه الأربعيني عن البشرية كلها.

أما هروب يونان، فكأنه يستصعب الدعوة، لكنه بعد أن ن‍زل في الماء وظلَّ فيه ثلاثة أيام حدث له شيء ما. لأنه بعدما ألقاه الحوت على الشاطئ، قال له الرب مرَّة ثانية بنفس الألفاظ الأُولى: «قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، ونَادِ لها بالمناداة التي أنا مُكلِّمُكَ بها» (يون 3: 2)، فانصاع يونان وكأنما تجدَّد فكره بعد أن اعتمد لنينوى ثلاثة أيام في العُمق!!

هنا شيء سرِّي حدث. وكأنما الن‍زول في الماء - معمودية يونان - هو اجتياز الموت والقيامة لنينوى.

يا للعجب على الإشارات البليغة، يا للكنيسة التي تستطيع باللمسات الخفيفة أن تُحدِّد صوماً محدَّداً أو عيداً معيناً. تحديدات كلها إلهام ورؤيا لِمَنْ يريد أن يسمع أو أن يرى، وليس كالكتبة والفرِّيسيين الذين قالوا له: «نريد أن نرى آية»، متغاضين عمَّا حدث من قبل.

وضعت الكنيسة هذا السفر أمام أعيننا في هذه الأيام لنستطيع أن نستوعبه لأنفسنا: أولاً في يونان، وثانياً في نينوى. لأن ليونان ونينوى رسالتين لنا في حياتنا. فيونان يضع لمسات صورة المسيح القادم من بعيد؛ ونينوى تبكِّتنا بشدَّة: «رجال نينوى سيقومون في الدِّين مع هذا الجيل ويدينونه... جيل شرير وفاسق يطلب آيةً، ولا تُعطَى له آيةٌ إلاَّ آية يونان النبي» (مت 12: 39،41).

«هذا الجيل»، لا يقصد به الوحي زمن جيل المسيح فحسب - كما يقول أغلبية الشُّرَّاح - ولكنه هو هذا الجيل أي كل جيل شرير وفاسق. كل جيل فيه الشرير والفاسق، فهو «هذا الجيل». أما جيل المسيح الذي هو جيل الرسل فهو جيل مستمر فينا وبنا حتى الآن. وأنتم تسمعون الكاهن يقول: ”اذكر يا رب كنيستك الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية“، ثم تسمع في المجمع أسماء البطاركة حتى آخر بطريرك. فالكنيسة ممتدَّة من المسيح والرسل إلى هذا اليوم. فهو جيل واحد، هو جيل المسيح، وهذا اسمه. الجيل الشاهد للمسيح حتى آخر يوم في تاريخ البشرية، جيلٌ ممتدٌّ، الجيل الطيب القديس الطاهر.

أما الجيل الآخَر فهو جيل قايين، وجيل يهوذا، الجيل الصالب، هو أيضاً ممتدٌّ حتى هذا اليوم، فيه يهوذا وفيه الصالب أيضاً.

«جيل فاسق وشرير»، قد تبدو هنا قسوة في كلام المسيح، ولكن ليس الأمر كذلك. هو جيل فاسق وشرير لأنه زاغ عن الله. وإذا سمعتَ عن ”الفسق والشر“ في الإنجيل فلتفهم أنه يقصد الوضع الروحي وليس الجسدي (لأن الوضع الجسدي يمكنه بطعنة في الضمير الحي من سيف كلمة الله أن يحوِّل أشر الناس إلى القداسة). الشر الروحي، هو أن نعبد غير الله، أن نرتمي في أحضان الشيطان، هذه هي الخيانة الزوجية. لأن المسيح اتخذ الكنيسة لنفسه عروساً، حَسِبَ نفسه عريساً للكنيسة: «لأني خَطَبْتُكُم لرجل واحد لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح» (2كو 11: 2).

«جيل فاسق وشرير يطلب آية»، هل يريد من الله أن يُرسل له ناراً من السماء؟ أو يرسل له مَنّاً من السماء يأكله ويشبع؟ ألم يُقدِّم لهم الطعام في معجزة إكثار الخمس خبزات والسمكتين (إنجيل اليوم الثالث من صوم يونان)؟ ولكن لنتنبَّه لأنفسنا جداً لأن الآية (أي المعجزة) لا تزيد الإيمان، ولكن الإيمان بحدِّ ذاته آية!! تذكرون قول الإنجيل إنَّ المسيح «لم يصنع هناك (في الناصرة) قواتٍ كثيرة لعدم إيمانهم» (مت 13: 58). لن يستطيع المسيح أن يعمل لك آية (معجزة) في حياتك إن لم يسبقها إيمان.

«ولا تُعطَى له آية إلا آية يونان النبي»، جيل فاسق شرير، وخطيته شنيعة جداً. لن تنفعه الآيات من السماء. ولكن آيته الوحيدة هي التي تُقيمه من موت الضمير، وآيته هي آية يونان النبي، آية الموت لأن يونان في عُرف المنطق والعلم أنه كان يتحتَّم أن يموت في بطن الحوت، يونان مات، نعم مات، والرب أقامه، ولكن لِمَنْ كان الموت؟ ما أجمله موتاً ذلك الذي نموته كل يوم من أجل الآخرين! ما أجملك يا يونان يا نبي الفداء وأنت تموت ثلاثة أيام بلياليها لتُكفِّر عن خطيتك وخطية نينوى العظيمة!!

الشُّرَّاح الغربيون يقولون عن سفر يونان إنه سفر خرافي، أما المتساهلون منهم فيقولون عن يونان إنه يُمثِّل الابن الأكبر (في مَثَل الابن الضال)، لأن نينوى لما خلصتْ، حَزِنَ يونان وصار مثل الابن الأكبر لم يُرِدْ أن يدخل البيت.

لا، لم يحدث هذا، الحقيقة العميقة هي أن يونان تمنَّع من الذهاب لنينوى لئلاً يُبشِّرها بالخراب!! ولأنه يعلم يقين العلم أن الله طويل الأناة بطيء الغضب، وسيصفح حتماً في النهاية. لذلك هرب يونان لئلا يواجه محنتين: محنة التبشير بالخراب، وهو عسير كل العُسْر على النفس الوديعة؛ ومحنة رجوع الله عن غضبه، فيظهر يونان وكأنه يسخر من شعب غريب. ولكن أين يهرب يونان من وجه الله؟ فالله دائماً يُطارد الخادم الهربان. فكل إنسان يمكن أن يهرب من وجه الله، إلاَّ مَن سمع صوته وحمل نيره وقَبـِلَ اسمه القدوس.

في الفكر القبطي يونان ليس هو الابن الأكبر الذي حَزِنَ على خلاص نينوى، ولكنه مثال المسيح. هو نبي الفداء المبدع، لا يقلُّ بل ربما يزيد عن كل الأنبياء في العهد القديم، رقة ورهافة، لا يُماثله في هذه الرهافة والرقة إلاَّ نبي واحد مظلوم مثله، هو أيوب.

يونان لم يحتمل أن يكون كارزاً بالخراب. وفي إنجيل لوقا إشارة لطيفة جداً ولكنها سرِّية للغاية، تكشف عن حدوث صلة توبيخ لأهل نينوى بسبب المخاطرة العظمى والموت المحقَّق الذي تعرَّض له يونان من أجلهم: «وكما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل» (لو 11: 30).

إذاً، فقد بلغ أهل نينوى أن يونان عَبَرَ محنة الموت في داخل بطن الحوت ثلاثة أيام، ثم قام من أجل خلاصهم!!

هنا يقصد إنجيل لوقا أنه كما كان يونان بنفسه (وليس بكرازته فقط) آية لأهل نينوى، هكذا يكون ابن الإنسان بنفسه آية لهذا الجيل، أي بموته وقيامته.

من الصعب جداً، يا إخوة، أن نتكلَّم كثيراً عن ضُغطة الموت على مدى ثلاثة أيام بلياليها التي جازها يونان، ولكننا نعرفها أكيداً في تطبيقها على المسيح لما مكث ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في الهاوية ثم قام: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا (أي كرامات)» (أف 4: 8)، قام «ونفخ (في وجه تلاميذه) وقال لهم: ... مَنْ غفرتم خطاياه غُفرت له» (يو 20: 23،22). أعطى الحِلَّ والبركة على الأرض لتدوم إلى أبد الآبدين، إذ نسمع الكاهن يقول: ”كما أعطيتَ الحلَّ للتلاميذ ليغفروا الخطايا ...“، هكذا دام هذا الحلُّ الذي يفكُّ كل الخطايا.

هكذا قام يونان وكَرَزَ لنينوى، ليحلَّ عنهم، بضيقة موته ثم بكرازته، غضب الله!! ويبدو أنه قال لهم ما حدث له. وأما من جهة نينوى المدينة العظيمة، فنحن آتون هنا لمنظر من المناظر الرهيبة، إذ بمجرَّد أن سمع الملك بما حدث ليونان، وبما نادى به، قام عن كرسيه الملكي وخلع ثيابه وفخفخته وجماله وفخره الكاذب، ولَبـِسَ المسوح، والشعب كله لَب‍ِسَ المسوح - والمسوح ثوب من شعر المِعْزَى خشن الملمس جداً - وأعطى الملك أمراً أن يُرفع الطعام عن كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً حتى الرضيع على صدر أمه - يا للهول - وعن البهائم كلها، وهنا وكأنما الخليقة كلها تتمثَّل في قصة توبة نينوى. وكان ذلك إلى ثلاثة أيام.

مدينة فيها ”واحد على ثمانية“ مليون نسمة تتوب كلها ويعفو الرب عنها من أجل توبة جماعية ناشطة وتدبير مُتقَن لهذا الملك النصوح الواعي الذي استطاع بحكمته أن يرفع حكم الموت عن شعبه؛ يا للرعاية ويا لحكمة الراعي!!

ثم ما هذا الحضن المتسع يا الله؟ إن هذا عجبٌ كبير حقاً! مدينة وثنية تؤمن بالله بكرازة واحدة؟

نعم، ليس بآية من السماء ولا من الأرض تتوب البشرية أو يُعفَى عن إثمها، بل بالاتضاع والصوم والصلاة وتذلُّل القلب لدى الله القدير!

آه لو عَلِمَ كل خاطئ هذا، ما استكثر خطاياه أبداً عن عفو الله. لو علمت الكنيسة ما ينبغي أن تكون عليه من توبة جماعية، لجلست مع أبنائها في هذه المسوح وفي تراب المذلَّة إلى أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء، ولكانت أزمنة الفرج تأتي من السماء سريعاً!! كما قال بطرس الرسول (أع 3: 19).

يا أحبائي، إن تعطَّلت أزمنة الفرج فالعيب هو منَّا، نينوى كانت تسير إلى الهاوية والهلاك أكيداً وسريعاً، ولكن بوقفة شريفة شُجاعة أمينة على قدر الدعوة وقدر التهديد، استطاعت أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء.

ماذا يعوزك أيها الخاطئ؟ أيعوزك المسوح؟ أيعوزك التراب؟ ماذا يعوزك؟

لو كانت التوبة بذهب وفضة، لو كانت تستلزم سُلَّماً عالياً نطلع به إلى السماء، لو كانت تستلزم منا جهداً نفسانياً أو عقلياً أو جسمانياً أو حكمة فائقة أو علماً زاهراً، لكي نُحدر المسيح من السماء أو نُصعده من الهاوية؛ لقلنا إن التوبة صعبة وشاقة. ولكنْ ملك وشعب ونساء وأطفال وبهائم نينوى عرفت طريقها سريعاً إلى النجاة. فما بالنا نتعطَّل نحن، وما بالنا نذهب يميناً ويساراً ونستشير الكبير والصغير، والخلاص أمامنا وبابه مفتوح، والذين دخلوا منه كثيرون، ومن كل شعب ولسان وأُمة!!

وها هي نينوى تضع لنا نموذجاً لتوبة بسيطة قادرة بعنفها أن تفتح أبواب السماء وتُحدر عفواً شاملاً بلا أي استثناء للمدينة بأسرها، قيل عنها في الكتاب إنها لا تعرف شمالها من يمينها!

يا إخوة، نحن قادمون على الأربعين المقدسة، يُعوزنا قلب كقلب ملك نينوى وشعب نينوى. أما مجرَّد ذِكْر البهائم الصائمة وهي خائرة على مذاودها ففيه توبيخ لنفسي، لأني أرى في نفسي وحوشاً ضارية تتعالى على غيرها كما يعلو الأسد على الغزال. كم فيكِ يا نفسي من غرائز تحتاج أن تُذلَّل بالجوع والمسوح؟ منظر نينوى وبهائمها واقفة على المذاود تئنُّ، مُرعب لشهواتي وملذَّاتي. الثيران وقعت من الجوع خائرة. وكم فيكِ من هذا يا نفسي يا مدينة الله! ما أجملكِ يا نفسي وأنتِ جالسة في المسوح والتراب متشبِّهة بنينوى!! جيد لكِ يا نفسي في هذه الأربعين المقدسة أن تَرْبُطي حواسكِ كلها، البهيمي منها والوحشي، ولا تفتكري أنكِ بنت المدينة العظمى التي تعرف شمالها من يمينها، لأن الخطية لا يتعالى عليها إلا مَنْ ذاق ما ذاقته نينوى!

اليوم، يا أحبائي، أكشف أمامكم سرَّ السماء بلا ستار، بلا حجاب؛ ملك يترك عرشه، وينت‍زع الخلاص، وينت‍زع العفو السمائي، بتوبة جميلة رائعة استطاع أن يحصل عليها وهو في التراب والرماد.

ثقوا، إن ساعات الخلاص وأيام الرجاء لا تأتي جُزافاً أبداً. إن كنتَ تريد خلاصاً سريعاً، إن كنتَ تريد أزمنة فرج، فاليوم تعلَّم من درس نينوى، وهو درس للأجيال كلها، جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلا آية نينوى.

آية نينوى لا تقل إطلاقاً عن تفتيح عيني الأعمى، وعن إطعام الجائعين بخمس خبزات وسمكتين، وتحويل الماء إلى خمر.

آية نينوى فاقت كل آية إلا موت المسيح وقيامته، ولكن الجديد في آية نينوى أنَّ نينوى تابت بمناداة نبي، والآن الصوت الذي يُنادينا أعظم من كل نبي.

لأن يونان نادى بالموت أو التوبة، ولكن المسيح يُقدِّم لنا موته قوَّة حيَّة محيية قادرة أن تُقيم من الخطية والموت!!

اليوم، يا أحبائي، يوم نينوى ونبيها الرقيق المشاعر، النبي الفادي القائل: ”هذه خطيتي“ حينما هاج البحر؛ ولم يقل: ”هذه خطية نينوى“.

يونان هنا يُنادي كل خادم، كل واعظ، كل كاهن، كيف يرى خطية شعبه ومدينته، ويرى في آلامه وحزنه وضيقه، بل وموته، فدية لأولاده.

وصلَّى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال:

+ «دعوتُ مِنْ ضيقي الرب فاستجابني. صَرَختُ مِنْ جوف الهاوية فَسَمِعتَ صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهرٌ (نهر الموت). جازت فوقي جميع تياراتك ولججك. فقلتُ: قَدْ طُردتُ مِنْ أمام عينيك (إلهي إلهي لماذا تركتني؟). ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك (وفي اليوم الثالث أقوم). قد اكتنفتني مياهٌ إلى النَّفْسِ (هذا المزمور يُقال في يوم جمعة الصلبوت). أحاط بي غَمْرٌ. التفَّ عُشْبُ البحرِ بِرَأْسِي. نزلتُ إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أَصعدْتَ من الوَهْدَة حياتي أيها الرب إلهي. حين أَعيتْ فيَّ نفسي ذكرتُ الرب، فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك. الذين يُرَاعون أباطيلَ كاذبةً يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لكَ. وأُوفي بما نذرته. للربِّ الخلاص» (يون 2: 2 - 9).

هكذا تكون صلواتنا في ضيقاتنا. اشْتَكِ للرب فقط، شكوى الممنونين: ”جازت عليَّ آلامك يا رب. أجزتني المحنة وأمررتني تحت العصا. المرُّ في حلقي. دَخَلَتْ المرارة إلى قلبي وإلى نفسي“. وكما يقول النبي: «توجعني جدران قلبي» (إر 4: 19)، بتعبير عجيب، كله أنين الشكر وشكوى الحمد.

إن صلاة يونان هي المزامير الجديدة للسائرين في طريق الجلجثة والتي حتماً تُردِّد قرارها في السماء كل الأرواح المبرَّرة المكمَّلة في المجد. إنها السُّلَّم الجديد الذي نرتفع عليه لكي نُطِلَّ خلسة إطلالة سريعة على المجد المعدِّ!

نعم، هكذا يُغتصَب ملكوت السموات! بصلاة كصلاة يونان وهو في عمق الهاوية.

اليوم، يا أحبائي، هو يوم التوبة الغاصبة لحقوق القدِّيسين وميراث ابن الله.

اليوم، مفهوم جديد لمعنى الكرازة بالبذل حتى الدم.

اليوم، دعوة للكارز ليسلك طريق النجاة لنفسه وشعبه، للراعي والرعية.

هذه نينوى تُعطينا صورة حاسمة لكل دقائق ومعنى استرضاء وجه الله!!

يا رعية الله، صغيرها وكبيرها، شيخها وطفلها، مريضها وسليمها، هذه نينوى أمامنا آية.

ويا كارزي المسكونة، ويا واعظي الكنيسة، هوذا يونان لكم اليوم مثلٌ يُحتَذى، كيف كان وماذا صار. فيونان قبل أن يدخل محنة الموت والثلاثة الأيام بلياليها ما كان نافعاً لا لنينوى ولا لنفسه، حيث كان سيذهب إلى ترشيش ليأكل الخرنوب مع الخنازير.

وها هو يونان بعد أن صلَّى من عمق التجربة وأهوال الموت يُرينا كيف جاز التجربة حتى النهاية، وصار يونان كارزاً بشِبْه المسيح، وحُسِبَ له موته بشِبْه فداء. وهكذا تكرَّم يونان بهذه التجربة فصار هو النبي الوحيد الذي أخذه المسيح ليضعه نموذجاً لموته وقيامته! وآية للتائبين!!

صلاة

يا رب الفداء الحقيقي الذي منك نستمد كل معنى وكل قوَّة للفداء، أَعطِ يا رب روح الفداء لرعاة شعبك، الكبير منهم والصغير، العجوز والحَدَث، المطران والكاهن، أَعطِهم روح يونان يا رب، وأما رعيتك فأَعطِها طاعة كطاعة نينوى لمليكها لقبول مرارة التوبة لتنجو ولا تُدان مع العالم، وليؤمن شعبك بالحق أنَّ الرب قادرٌ أن يُميت ويُحيي.

فيا شعب الله اطلبوا الحياة بسيرة التوبة ولا تسعوا بسيرة أهل العالم في طريق الموت.

يا رب أَعطِ رعيتك جميعاً روحاً كروح نينوى في هذا اليوم ليتوب شعبك، وتتوب كل مدن ممالك الأرض إليك، ولتأتِ أزمنة الفرج سريعاً من عندك على العالم. آمين.

(فبراير 1979)


شارك هذه المقالة مع أصدقائك :
 

المتابعون