عالمنا هو محطة للمسافرين.
غريب أنت في هذه الحياة : أنت حقاً مسيحي إن عرفت أنك غريب في بيتك ووطنك . لأن وطنك فوق ولست فيه ضيفاً عابراً ، أما هنا في بيتك هذا ، فأنت ضيف وألا لما غادرته.
أنت ضيف :ـ إن وجب عليك الخروج منه فأنت فيه ضيف ، لا تغتر ، أنت ضيف ، شئت أم أبيت دع بيتك لأولادك يا ضيفاً عابراً ، دعة لسواك ، دعة للذين سوف يعبرون مثلك.
الفندق والبيت:ـ إن كنت في فندق ألا تترك محلك لضيف جديد ؟ وفي بيتك تصنع نفس الشيء: أبوك ترك لك المكان فعليك أن تتركه لأولادك.
التمتع والاستخدام :ـ أنت لا تقيم فيه كمن سوف يبقي ، ولن تترك مكانك لمن سوف يبقون لم تشتغل ؟ ولمن تشتغل ؟ تقول : لأولادي . وهذا لمن يشتغل ؟ لأولاده . وهؤلاء لمن يشتغلون ؟ لأولادهم . إذاً لا أحد يشتغل لنفسه أجعل من ثروتك عوناً لك في السفر لئلا تكون حافزاً لجشعك . خذ منها الضروري ولا تبحث فيها عن لذتك . التمتع بشيء هو تعلق به من أجل ذاته ، أما استخدامه فهو استعماله أداة للوصول بواسطته إلي من نحب إن كان أهلاً للمحبة . الاستعمال غير اللائق لشيء يدعى سوء استعمال أو سوء تصرف .
استخدم هذا العالم فقط ولا تسئ استعماله واستخدم الخيرات الجسدية الموضوعة لزمن محدود بلوغاً إلي الخيرات الروحية التي تبقي إلي الأبد.
استخدم العالمَ ولا تكن له أسيراً : السبيل الذي سلكته حين دخلت لا تزال تسير فيه ، ولقد دخلت لتخرج لا لتبقي.
فندق :ـ استعمل أموالك كما يستعمل المسافر في الفندق الطاولة والكأس والإبريق والسرير أستعملها كمن سوف يتركها لا كمن سوف يبقي.
استخدم العالم كمن لا يستخدمه : وأعلم انك مسافر على طريق أنت غريب فجدّد قواك . جدّد قواك وكمّل طريقك ومتى سرتَ فلا تحملْ معك ما تجده في الفندق ، سوف يأتي مسافر أخر ويستعمل الأدوات عينها دون أن يحملها معه.
عرياناً خرجت من بطن أمك وعرياناً تعود إلي الأرض . إن كانت تلك حالك فأرفع قلبك واستمع إلي إن كانت تلك حالك فسوف تصل إلي ما وعدك الله به.
ألا تعتبر اليد التي دعتك ضمانة لك كبري؟ لقد دعاك الله فتوسَّل إليه قائلاً : دعوتني فها أنا أتوسل إليك خذني إلي ما وعدتني به وكمّل ما باشرت به لا تترك عطاياك بلا ثمرة ولا تتخلَّ عن حقّك بل أدخل حصادك في أهرائك .
سعادة الحياة الأبدية :ـ ما أسعد الحياة الأبدية وما أهنأها . فلا مثيل لها. فيها لن نجد عدواً ولن نخسر صديقاً من هنا وهناك نرفع التسابيح لله . ولكن من هنا ترتفع التسابيح بأصوات قلقة ومن هناك ترتفع بأصوات مطمئنة ، هنا يسبحه من سوف يموتون ، وفي السماء يسبحه من يحيون إلي الأبد . هنا يسبحونه بالرجاء ، وهناك يسبحونه متمتعين بمشاهدته . هنا يسبحونه في الطريق وهنالك يسبحونه في الوطن .
أنشد الآن لكي تتعزيّ في التعب ، لا لتتمتع بجمال الراحة ، أنشد كما تعودّ المسافرون أن ينشدوا أنشد وسرْ وخفّفْ بترانيمك من تعبك ولا تستسلم إلي الكسل ، أنشد وتقدَّم . تقَّدم في الخير إن تقدمتَ سرتَ تقدَّم في الإيمان المستقيم والأخلاق الصالحة لا تضلَّ ولا تتراجعْ ولا تتوقف.
عواطف وصلوات.
رب إن كنت لا أزال حتى الآن بجسدي ، في هذا العالم ، فأني أريد من صميم فؤادي أن اخرج منه.
إني أغنّي مدينتي ، التي لي ، وأتوق إليها ، ولكن كيف أجد فيّ محبة وطني الذي نسيته طول سفري.
لقد بعثتَ منه إليَّ برسائل ، وقدمت لي كتبك لتنعش فيَّ شوق العودة إليه ، أحببتُ غربتي ووجهت أنظاري إلي أعدائي وأدرت ظهري إلي الوطن.
أنا وطني بالشوق ، وها أني ألقي رجائي في أرض وطني ، نظير مرساة ، لئلا أغرق في ذاك البحر المضطرب.
ومتى أنتهي سفرنا فوق هذه الأرض وجدنا كلُنا عزاءنا ، صوتاً واحداً وشعباً واحداً في وطن واحد مع ألوف الملائكة الذين يرنمون بقيثاراتهم إلي جانب القوات السماوية. هناك من ذا الذي يبكي؟ من ينوح؟ من يتعب أو يحتاج ؟ أو يموت ؟
هناك ماذا ينتظرنا ؟ ماذا يكون شغلي ؟ الحب الهنيء بحضرتك هذا الحب الذي أتوق إليه الآن وأصبو وكيف يضرمني متى حصلت عليه؟
ومتى وصلت إلي ذلك الحب الذي يضرمني والذي أتوق إليه قبل أن أراه . كيف يشغلني ؟ كيف يحولني؟ (طوبي لسكان بيتك فإنهم يسبحونك إلي الأبد)"مز5:88".
من كتاب خواطر فيلسوف فى الحياة الروحية - القديس أغسطينوس
